كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وَكَذَلِكَ مَنْ زَعَمَ أَنَّ الرَّبَّ مُرَكَّبٌ مُؤَلَّفٌ بِمَعْنَى أَنَّهُ يَقْبَلُ التَّفْرِيقَ وَالِانْقِسَامَ وَالتَّجْزِئَةَ فَهَذَا مِنْ أَكْفَرِ النَّاسِ وَأَجْهَلِهِمْ وَقَوْلُهُ شَرٌّ مِنْ قَوْلِ الَّذِينَ يَقُولُونَ: إنَّ لِلَّهِ وَلَدًا بِمَعْنَى أَنَّهُ انْفَصَلَ مِنْهُ جُزْءٌ فَصَارَ وَلَدًا لَهُ وَقَدْ بَسَطْنَا الْكَلَامَ عَلَى هَذَا فِي تَفْسِيرِ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} وَفِي غَيْرِ ذَلِكَ. وَكَذَلِكَ إذَا قِيلَ: هُوَ جِسْمٌ بِمَعْنَى أَنَّهُ مُرَكَّبٌ مِنْ الْجَوَاهِرِ الْمُنْفَرِدَةِ أَوْ الْمَادَّةِ وَالصُّورَةِ؛ فَهَذَا بَاطِلٌ بَلْ هُوَ أَيْضًا بَاطِلٌ فِي الْمَخْلُوقَاتِ فَكَيْفَ فِي الْخَالِقِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَهَذَا مِمَّا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ قَدْ قَالَهُ بَعْضُ الْمُجَسِّمَةِ الهشامية والكَرَّامِيَة وَغَيْرِهِمْ مِمَّنْ يُحْكَى عَنْهُمْ التَّجْسِيمُ؛ إذْ مِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يَقُولُ: إنَّ كُلَّ جِسْمٍ فَإِنَّهُ مُرَكَّبٌ مِنْ الْجَوَاهِرِ الْمُنْفَرِدَةِ وَيَقُولُونَ مَعَ ذَلِكَ: إنَّ الرَّبَّ جِسْمٌ وَأَظُنُّ هَذَا قَوْلَ بَعْضِ الكَرَّامِيَة فَإِنَّهُمْ يَخْتَلِفُونَ فِي إثْبَاتِ الْجَوْهَرِ الْفَرْدِ وَهُمْ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّهُ سُبْحَانَهُ جِسْمٌ. لَكِنْ يُحْكَى عَنْهُمْ نِزَاعٌ فِي الْمُرَادِ بِالْجِسْمِ؛ هَلْ الْمُرَادُ بِهِ أَنَّهُ مَوْجُودٌ قَائِمٌ بِنَفْسِهِ أَوْ الْمُرَادُ بِهِ أَنَّهُ مُرَكَّبٌ؟ فَالْمَشْهُورُ عَنْ أَبِي الْهَيْصَمِ وَغَيْرِهِ مِنْ نُظَّارِهِمْ أَنَّهُ يُفَسَّرُ مُرَادُهُ؛ بِأَنَّهُ مَوْجُودٌ قَائِمٌ بِنَفْسِهِ مُشَارٌ إلَيْهِ لَا بِمَعْنَى أَنَّهُ مُؤَلَّفٌ مُرَكَّبٌ. وَهَؤُلَاءِ مِمَّنْ اعْتَرَفَ نفاة الْجِسْمِ بِأَنَّهُمْ لَا يَكْفُرُونَ؛ فَإِنَّهُمْ لَمْ يُثْبِتُوا مَعْنًى فَاسِدًا فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى لَكِنْ قَالُوا إنَّهُمْ أَخْطَئُوا فِي تَسْمِيَةِ كُلِّ مَا هُوَ قَائِمٌ بِنَفْسِهِ أَوْ مَا هُوَ مَوْجُودٌ جِسْمًا مِنْ جِهَةِ اللُّغَةِ؛ قَالُوا: فَإِنَّ أَهْلَ اللُّغَةِ لَا يُطْلِقُونَ لَفْظَ الْجِسْمِ إلَّا عَلَى الْمُرَكَّبِ. وَالتَّحْقِيقُ: أَنَّ كِلَا الطَّائِفَتَيْنِ مُخْطِئَةٌ عَلَى اللُّغَةِ: أُولَئِكَ الَّذِينَ يُسَمُّونَ كُلَّ مَا هُوَ قَائِمٌ بِنَفْسِهِ جِسْمًا وَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ سَمَّوْا كُلَّ مَا يُشَارُ إلَيْهِ وَتُرْفَعُ الْأَيْدِي إلَيْهِ جِسْمًا وَادَّعَوْا أَنَّ كُلَّ مَا كَانَ كَذَلِكَ فَهُوَ مُرَكَّبٌ؛ وَأَنَّ أَهْلَ اللُّغَةِ يُطْلِقُونَ لَفْظَ الْجِسْمِ عَلَى كُلِّ مَا كَانَ مُرَكَّبًا. فَالْخَطَأُ فِي اللُّغَةِ وَالِابْتِدَاعُ فِي الشَّرْعِ: مُشْتَرَكٌ بَيْنَ الطَّائِفَتَيْنِ. وَأَمَّا الْمَعَانِي: فَمَنْ أَثْبَتَ مِنْ الطَّائِفَتَيْنِ مَا نَفَاهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَوْ نَفَى مَا أَثْبَتَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ؛ فَهُوَ مُخْطِئٌ عَقْلًا كَمَا هُوَ مُخْطِئٌ شَرْعًا. بَلْ أُولَئِكَ يَقُولُونَ لَهُمْ: نَحْنُ وَأَنْتُمْ اتَّفَقْنَا عَلَى أَنَّ الْقَائِمَ بِنَفْسِهِ يُسَمَّى جِسْمًا فِي غَيْرِ مَحَلِّ النِّزَاعِ ثُمَّ ادَّعَيْتُمْ أَنَّ الْخَالِقَ الْقَائِمَ بِنَفْسِهِ يَخْتَصُّ بِمَا يَمْنَعُ هَذِهِ التَّسْمِيَةَ الَّتِي اتَّفَقْنَا نَحْنُ وَأَنْتُمْ عَلَيْهَا؛ فَبَيَّنَّا أَنَّهُ لَا يَخْتَصُّ لِأَنَّ ذَلِكَ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ الْأَجْسَامَ مُرَكَّبَةٌ وَنَحْنُ نَمْنَعُ ذَلِكَ وَنَقُولُ: لَيْسَتْ مُرَكَّبَةً مِنْ الْجَوَاهِرِ الْمُنْفَرِدَةِ. وَلِهَذَا كَرِهَ السَّلَفُ وَالْأَئِمَّةُ- كَالْإِمَامِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ- أَنْ تُرَدَّ الْبِدْعَةُ بِالْبِدْعَةِ فَكَانَ أَحْمَد فِي مُنَاظَرَتِهِ للجهمية لَمَّا نَاظَرُوهُ عَلَى أَنَّ الْقُرْآنَ مَخْلُوقٌ وَأَلْزَمَهُ أَبُو عِيسَى مُحَمَّدُ بْنُ عِيسَى بُرْغُوثٌ أَنَّهُ إذَا كَانَ غَيْرَ مَخْلُوقٍ لَزِمَ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ جِسْمًا وَهَذَا مُنْتَفٍ؛ فَلَمْ يُوَافِقْهُ أَحْمَد: لَا عَلَى نَفْيِ ذَلِكَ وَلَا عَلَى إثْبَاتِهِ؛ بَلْ قَالَ: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ}.
وَنَبَّهَ أَحْمَد عَلَى أَنَّ هَذَا اللَّفْظَ لَا يُدْرَى مَا يُرِيدُونَ بِهِ. وَإِذَا لَمْ يُعْرَفْ مُرَادُ الْمُتَكَلِّمِ بِهِ لَمْ يُوَافِقْهُ؛ لَا عَلَى إثْبَاتِهِ وَلَا عَلَى نَفْيِهِ. فَإِنْ ذَكَرَ مَعْنًى أَثْبَتَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَثْبَتْنَاهُ وَإِنْ ذَكَرَ مَعْنًى نَفَاهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ نَفَيْنَاهُ بِاللِّسَانِ الْعَرَبِيِّ الْمُبِينِ وَلَمْ نَحْتَجْ إلَى أَلْفَاظٍ مُبْتَدَعَةٍ فِي الشَّرْعِ مُحَرَّفَةٍ فِي اللُّغَةِ وَمَعَانِيهَا مُتَنَاقِضَةٌ فِي الْعَقْلِ؛ فَيَفْسُدُ الشَّرْعُ وَاللُّغَةُ وَالْعَقْلُ؛ كَمَا فَعَلَ أَهْلُ الْبِدَعِ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ الْبَاطِلِ الْمُخَالِفِ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ. وَكَذَلِكَ أَيْضًا لَفْظُ الْجَبْرِ كَرِهَ السَّلَفُ أَنْ يُقَالَ جَبَرَ وَأَنْ يُقَالَ: مَا جَبَرَ؛ فَرَوَى الْخَلَّالُ فِي كِتَابِ السُّنَّةِ عَنْ أَبِي إسْحَاقَ الفزاري- الْإِمَامِ- قَالَ: قَالَ الأوزاعي: أَتَانِي رَجُلَانِ فَسَأَلَانِي عَنْ الْقَدَرِ فَأَحْبَبْت أَنْ آتِيَك بِهِمَا تَسْمَعُ كَلَامَهُمَا وَتُجِيبُهُمَا. قُلْت: رَحِمَك اللَّهُ أَنْتَ أَوْلَى بِالْجَوَابِ. قَالَ: فَأَتَانِي الأوزاعي وَمَعَهُ الرَّجُلَانِ فَقَالَ: تَكَلَّمَا فَقَالَا: قَدِمَ عَلَيْنَا نَاسٌ مِنْ أَهْلِ الْقَدَرِ فَنَازَعُونَا فِي الْقَدَرِ- وَنَازَعْنَاهُمْ حَتَّى بَلَغَ بِنَا وَبِهِمْ الْجَوَابُ؛ إلَى أَنْ قُلْنَا: إنَّ اللَّهَ قَدْ جَبَرَنَا عَلَى مَا نَهَانَا عَنْهُ وَحَالَ بَيْنَنَا وَبَيْنَ مَا أَمَرَنَا بِهِ وَرَزَقَنَا مَا حَرَّمَ عَلَيْنَا فَقَالَ: أَجِبْهُمَا يَا أَبَا إسْحَاقَ قُلْت رَحِمَك اللَّهُ أَنْتَ أَوْلَى بِالْجَوَابِ فَقَالَ أَجِبْهُمَا؛ فَكَرِهْت أَنْ أُخَالِفَهُ؛ فَقُلْت: يَا هَؤُلَاءِ إنَّ الَّذِينَ آتَوْكُمْ بِمَا أَتَوْكُمْ بِهِ قَدْ ابْتَدَعُوا بِدْعَةً وَأَحْدَثُوا حَدَثًا وَإِنِّي أَرَاكُمْ قَدْ خَرَجْتُمْ مِنْ الْبِدْعَةِ إلَى مِثْلِ مَا خَرَجُوا إلَيْهِ؛ فَقَالَ أَجَبْت وَأَحْسَنْت يَا أَبَا إسْحَاقَ. وَرُوِيَ أَيْضًا عَنْ بَقِيَّةَ بْنِ الْوَلِيدِ قَالَ: سَأَلْت الزُّبَيْدِيَّ وَالْأَوْزَاعِي عَنْ الْجَبْرِ؛ فَقَالَ الزُّبَيْدِيُّ: أَمْرُ اللَّهِ أَعْظَمُ وَقُدْرَتُهُ أَعْظَمُ مِنْ أَنْ يُجْبِرَ أَوْ يُعْضِلَ وَلَكِنْ يَقْضِي وَيُقَدِّرُ وَيَخْلُقُ وَيَجْبُلُ عَبْدَهُ عَلَى مَا أَحَبَّ. وَقَالَ الأوزاعي: مَا أَعْرِفُ لِلْجَبْرِ أَصْلًا مِنْ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ؛ فَأَهَابُ أَنْ أَقُولَ ذَلِكَ وَلَكِنَّ الْقَضَاءَ وَالْقَدَرَ وَالْخَلْقَ وَالْجَبْلَ فَهَذَا يُعْرَفُ فِي الْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِنَّمَا وُضِعَتْ هَذَا مَخَافَةَ أَنْ يَرْتَابَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْجَمَاعَةِ وَالتَّصْدِيقِ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ المروذي قَالَ: قُلْت لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ: تَقُولُ إنَّ اللَّهَ أَجْبَرَ الْعِبَادَ؟ فَقَالَ: هَكَذَا لَا تَقُولُ وَأَنْكَرَ هَذَا وَقَالَ: يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ. وَقَالَ المروذي: كُتِبَ إلَى عَبْدِ الْوَهَّابِ فِي أَمْرِ حُسَيْنِ بْنِ خَلَفٍ العكبري وَقَالَ: إنَّهُ تَنَزَّهَ عَنْ مِيرَاثِ أَبِيهِ. فَقَالَ رَجُلٌ قَدَرِيٌّ: إنَّ اللَّهَ لَمْ يُجْبِرْ الْعِبَادَ عَلَى الْمَعَاصِي؛ فَرَدَّ عَلَيْهِ أَحْمَد بْنُ رَجَاءٍ فَقَالَ: إنَّ اللَّهَ جَبَرَ الْعِبَادَ- أَرَادَ بِذَلِكَ إثْبَاتَ الْقَدَرِ- فَوَضَعَ أَحْمَد بْنُ عَلِيٍّ كِتَابًا يُحْتَجُّ فِيهِ. فَأَدْخَلْته عَلَى أَبِي عَبْدِ اللَّهِ وَأَخْبَرْته بِالْقِصَّةِ قَالَ: وَيَضَعُ كِتَابًا وَأَنْكَرَ عَلَيْهِمَا جَمِيعًا: عَلَى ابْنِ رَجَاءٍ حِينَ قَالَ: جَبَرَ الْعِبَادَ وَعَلَى الْقَدَرِيِّ الَّذِي قَالَ: لَمْ يَجْبُرْ وَأَنْكَرَ عَلَى أَحْمَد بْنِ عَلِيٍّ وَضْعَهُ الْكِتَابَ وَاحْتِجَاجَهُ وَأَمَرَ بِهِجْرَانِهِ لِوَضْعِهِ الْكِتَابَ. وَقَالَ لِي: يَجِبُ عَلَى ابْنِ رَجَاءٍ أَنْ يَسْتَغْفِرَ رَبَّهُ لَمَّا قَالَ: جَبَرَ الْعِبَادَ. فَقُلْت لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ: فَمَا الْجَوَابُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ؟ فَقَالَ: يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ. قَالَ الْخَلَّالُ: وَأَخْبَرَنَا المروذي فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ لَمَّا أَنْكَرَ عَلَى الَّذِي قَالَ: لَمْ يَجْبُرْ وَعَلَى مَنْ رَدَّ عَلَيْهِ جَبَرَ؛ فَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: كُلَّمَا ابْتَدَعَ رَجُلٌ بِدْعَةً اتسعوا فِي جَوَابِهَا. وَقَالَ: يَسْتَغْفِرُ رَبَّهُ الَّذِي رَدَّ عَلَيْهِمْ بِمُحْدَثَةٍ وَأَنْكَرَ عَلَى مَنْ رَدَّ شَيْئًا مِنْ جِنْسِ الْكَلَامِ إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ فِيهِ إمَامٌ تَقَدَّمَ. قَالَ المروذي: فَمَا كَانَ بِأَسْرَعَ مِنْ أَنْ قَدِمَ أَحْمَد بْنُ عَلِيٍّ مِنْ عكبرا وَمَعَهُ نُسْخَةٌ وَكِتَابٌ مِنْ أَهْلِ عكبرا فَأَدْخَلْت أَحْمَد بْنَ عَلِيٍّ عَلَى أَبِي عَبْدِ اللَّهِ؛ فَقَالَ: يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ هَذَا الْكِتَابُ ادْفَعْهُ إلَى أَبِي بَكْرٍ حَتَّى يَقْطَعَهُ وَأَنَا أَقُومُ عَلَى مِنْبَرِ عكبرا وَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ؛ فَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ لِي: يَنْبَغِي أَنْ تَقْبَلُوا مِنْهُ وَارْجِعُوا إلَيْهِ. قَالَ الْمَرْوَزِي: سَمِعْت بَعْضَ الْمَشْيَخَةِ يَقُولُ: سَمِعْت عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ مَهْدِيٍّ يَقُولُ: أَنْكَرَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ جَبَرَ وَقَالَ: اللَّهُ تَعَالَى جَبَلَ الْعِبَادَ. قَالَ المروذي: أَظُنُّهُ أَرَادَ قَوْلَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَشَجِّ عَبْدِ الْقَيْسِ. قُلْت هَذِهِ الْأُمُورُ مَبْسُوطَةٌ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ التَّنْبِيهُ عَلَى أَنَّ السَّلَفَ كَانُوا يُرَاعُونَ لَفْظَ الْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ فِيمَا يُثْبِتُونَهُ وَيَنْفُونَهُ عَنْ اللَّهِ مِنْ صِفَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ فَلَا يَأْتُونَ بِلَفْظِ مُحْدَثٍ مُبْتَدَعٍ فِي النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ بَلْ كُلُّ مَعْنًى صَحِيحٍ فَإِنَّهُ دَاخِلٌ فِيمَا أَخْبَرَ بِهِ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَالْأَلْفَاظُ الْمُبْتَدَعَةُ لَيْسَ لَهَا ضَابِطٌ بَلْ كُلُّ قَوْمٍ يُرِيدُونَ بِهَا مَعْنًى غَيْرَ الْمَعْنَى الَّذِي أَرَادَهُ أُولَئِكَ كَلَفْظِ الْجِسْمِ وَالْجِهَةِ وَالْحَيِّزِ وَالْجَبْرِ وَنَحْوِ ذَلِكَ؛ بِخِلَافِ أَلْفَاظِ الرَّسُولِ فَإِنَّ مُرَادَهُ بِهَا يُعْلَمُ كَمَا يُعْلَمُ مُرَادُهُ بِسَائِرِ أَلْفَاظِهِ وَلَوْ يَعْلَمُ الرَّجُلُ مُرَادَهُ لَوَجَبَ عَلَيْهِ الْإِيمَانُ بِمَا قَالَهُ مُجْمَلًا. وَلَوْ قُدِّرَ مَعْنًى صَحِيحٌ- وَالرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُخْبِرْ بِهِ- لَمْ يَحُلَّ لِأَحَدِ أَنْ يُدْخِلَهُ فِي دِينِ الْمُسْلِمِينَ بِخِلَافِ مَا أَخْبَرَ بِهِ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّ التَّصْدِيقَ بِهِ وَاجِبٌ. وَالْأَقْوَالُ الْمُبْتَدَعَةُ تَضَمَّنَتْ تَكْذِيبَ كَثِيرٍ مِمَّا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَذَلِكَ يَعْرِفُهُ مَنْ عَرَفَ مُرَادَ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمُرَادَ أَصْحَابِ تِلْكَ الْأَقْوَالِ الْمُبْتَدَعَةِ. وَلَمَّا انْتَشَرَ الْكَلَامُ الْمُحْدَثُ وَدَخَلَ فِيهِ مَا يُنَاقِضُ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ وَصَارُوا يُعَارِضُونَ بِهِ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ؛ صَارَ بَيَانُ مُرَادِهِمْ بِتِلْكَ الْأَلْفَاظِ وَمَا احْتَجُّوا بِهِ لِذَلِكَ مِنْ لُغَةٍ وَعَقْلٍ يُبَيِّنُ لِلْمُؤْمِنِ مَا يَمْنَعُهُ أَنْ يَقَعَ فِي الْبِدْعَةِ وَالضَّلَالِ أَوْ يَخْلُصَ مِنْهَا- إنْ كَانَ قَدْ وَقَعَ- وَيَدْفَعُ عَنْ نَفْسِهِ فِي الْبَاطِنِ وَالظَّاهِرِ مَا يُعَارِضُ إيمَانَهُ بِالرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ ذَلِكَ وَهَذَا مَبْسُوطٌ فِي مَوْضِعِهِ. وَالْمَقْصُودُ هُنَا: أَنَّ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يُدْفَعُ بِالْأَلْفَاظِ الْمُجْمَلَةِ كَلَفْظِ التَّجْسِيمِ وَغَيْرِهِ مِمَّا قَدْ يَتَضَمَّنُ مَعْنًى بَاطِلًا وَالنَّافِي لَهُ يَنْفِي الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ. فَإِذَا ذُكِرَتْ الْمَعَانِي الْبَاطِلَةُ نَفَرَتْ الْقُلُوبُ. وَإِذَا أَلْزَمُوهُ مَا يَلْزَمُونَهُ مِنْ التَّجْسِيمِ- الَّذِي يَدَّعُونَهُ نَفَرَ إذَا قَالُوا لَهُ: هَذَا يَسْتَلْزِمُ التَّجْسِيمَ؛ لِأَنَّ هَذَا لَا يُعْقَلُ إلَّا فِي جِسْمٍ- لَمْ يَحْسُنْ نَقْضُ مَا قَالُوهُ وَلَمْ يَحْسُنْ حَلُّهُ وَكُلُّهُمْ مُتَنَاقِضُونَ. وَحَقِيقَةُ كَلَامِهِمْ أَنَّ مَا وَصَفَ بِهِ الرَّبُّ نَفْسَهُ لَا يُعْقَلُ مِنْهُ إلَّا مَا يُعْقَلُ فِي قَلِيلٍ مِنْ الْمَخْلُوقَاتِ الَّتِي نَشْهَدُهَا كَأَبْدَانِ بَنِي آدَمَ. وَهَذَا فِي غَايَةِ الْجَهْلِ؛ فَإِنَّ مِنْ الْمَخْلُوقَاتِ مَخْلُوقَاتٍ لَمْ نَشْهَدْهَا كَالْمَلَائِكَةِ وَالْجِنِّ حَتَّى أَرْوَاحِنَا. وَلَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ مَا أَخْبَرَ بِهِ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُمَاثِلًا لَهَا فَكَيْفَ يَكُونُ مُمَاثِلًا لِمَا شَاهَدُوهُ. وَهَذَا الْكَلَامُ فِي لَفْظِ الْجِسْمِ مِنْ حَيْثُ اللُّغَةُ. وَأَمَّا الشَّرْعُ فَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَمْ يُنْقَلْ عَنْ أَحَدٍ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ: وَلَا الصَّحَابَةِ وَلَا التَّابِعِينَ وَلَا سَلَفِ الْأُمَّةِ أَنَّ اللَّهَ جِسْمٌ أَوْ أَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِجِسْمِ؛ بَلْ النَّفْيُ وَالْإِثْبَاتُ بِدْعَةٌ فِي الشَّرْعِ. وَأَمَّا مِنْ جِهَةِ الْعَقْلِ فَبَيْنَهُمْ نِزَاعٌ فِيمَا اتَّفَقُوا عَلَى تَسْمِيَتِهِ جِسْمًا: كَالسَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَالرِّيحِ وَالْمَاءِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا يُشَارُ إلَيْهِ وَيُخْتَصُّ بِجِهَةِ وَهُوَ مُتَحَيِّزٌ. قَدْ تَنَازَعُوا هَلْ هُوَ مُرَكَّبٌ مِنْ جواهر لَا تَقْبَلُ الْقِسْمَةَ أَوْ مِنْ مَادَّةٍ وَصُورَةٍ أَوْ لَا مِنْ هَذَا وَلَا مِنْ هَذَا؟ وَأَكْثَرُ الْعُقَلَاءِ عَلَى الْقَوْلِ الثَّالِثِ. وَكُلٌّ مِنْ الْقَوْلَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ قَالَهُ طَائِفَةٌ مِنْ النُّظَّارِ. وَالْأَوَّلُ كَثِيرٌ فِي أَهْلِ الْكَلَامِ وَالثَّانِي كَثِيرٌ فِي الْفَلَاسِفَةِ؛ لَكِنَّ قَوْلَ الطَّائِفَتَيْنِ بَاطِلٌ مَعْلُومٌ بِالْعَقْلِ بُطْلَانُهُ عِنْدَ أَهْلِ الْقَوْلِ الثَّالِثِ.
وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ، فَإِذَا قَالَ الْقَائِلُ: أَنَا أَقُولُ إنَّهُ فَوْقَ الْعَرْشِ وَإِنَّهُ تُرْفَعُ الْأَيْدِي إلَيْهِ وَنَحْوَ ذَلِكَ؛ وَلَيْسَ كُلُّ مَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ مُرَكَّبًا مِنْ أَجْزَاءٍ مُفْرَدَةٍ وَلَا مِنْ الْمَادَّةِ وَالصُّورَةِ الْعَقْلِيَّيْنِ؛ كَانَ الْكَلَامُ مَعَ هَذَا فِي التَّلَازُمِ. فَإِذَا قَالَ الثَّانِي: بَلْ كُلُّ مَا كَانَ فَوْقَ غَيْرِهِ وَكُلُّ مَا كَانَ يُشَارُ إلَيْهِ بِالْأَيْدِي؛ فَلَا يَكُونُ إلَّا مُرَكَّبًا إمَّا مِنْ هَذَا؛ وَإِمَّا مِنْ هَذَا: كَانَ هَذَا بِمَنْزِلَةِ قَوْلِ الْآخَرِ: كُلُّ مَا كَانَ حَيًّا قَادِرًا عَالِمًا؛ فَلَا يَكُونُ إلَّا مُرَكَّبًا هَذَا التَّرْكِيبَ أَوْ كُلُّ مَا كَانَ لَهُ حَيَاةٌ وَعِلْمٌ وَقُدْرَةٌ؛ فَلَا يَكُونُ إلَّا مُرَكَّبًا هَذَا التَّرْكِيبَ أَوْ كُلُّ مَا كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا مُتَكَلِّمًا فَلَا يَكُونُ إلَّا مُرَكَّبًا هَذَا التَّرْكِيبَ بِنَاءً عَلَى أَنَّ كُلَّ مَوْجُودٍ قَائِمٍ بِنَفْسِهِ هُوَ جِسْمٌ وَكُلَّ جِسْمٍ فَهُوَ مُرَكَّبٌ هَذَا التَّرْكِيبَ. وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا بَاطِلٌ عِنْدَ جَمَاهِيرِ الْعُلَمَاءِ وَالْعُقَلَاءِ بِاتِّفَاقِهِمْ؛ فَإِنِّي لَا أَعْلَمُ طَائِفَةً مِنْ الْعُقَلَاءِ الْمُعْتَبَرِينَ أَنَّهُمْ قَالُوا: هُوَ جِسْمٌ؛ وَهُوَ مُرَكَّبٌ هَذَا التَّرْكِيبَ بَلْ الَّذِي أَعْرِفُ أَنَّهُمْ قَالُوا: هُوَ جِسْمٌ كالهشامية والكَرَّامِيَة لَا يُفَسِّرُونَ كُلُّهُمْ الْجِسْمَ بِمَا هُوَ مُرَكَّبٌ هَذَا التَّرْكِيبَ بَلْ إنَّمَا نُقِلَ هَذَا عَنْ بَعْضِهِمْ وَقَدْ يُنْقَلُ عَنْ بَعْضِهِمْ مَقَالَاتٌ يُنْكِرُهَا بَعْضُهُمْ: كَمَا نُقِلَ عَنْ مُقَاتِلِ بْنِ سُلَيْمَانَ وَهِشَامِ بْنِ الْحَكَمِ مَقَالَاتٌ رَدِيَّةٌ. وَمِنْ النَّاسِ مَنْ رَدَّ هَذَا النَّقْلَ عَنْ مُقَاتِلِ بْنِ سُلَيْمَانَ فَرَدَّهُ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ. وَأَمَّا النَّقْلُ عَنْ هِشَامٍ فَرَدَّهُ كَثِيرٌ مِنْ أَتْبَاعِهِ. وَمَنْ قَدَّرَ أَنَّهُ قَالَ ذَلِكَ مِنْ النَّاسِ؛ فَقَوْلُهُ بَاطِلٌ كَسَائِرِ مَنْ قَالَ عَلَى اللَّهِ الْبَاطِلِ؛ كَمَا حُكِيَ عَنْ بَعْضِ الْيَهُودِ وَالرَّافِضَةِ وَالْمُجَسِّمَةِ وَإِنَّهُمْ يَصِفُونَهُ بِالنَّقَائِصِ الَّتِي تَعَالَى اللَّهُ عَنْهَا؛ كَوَصْفِهِ أَنَّهُ أَجْوَفُ وَأَنَّهُ بَكَى حَتَّى رَمَدَ وَعَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَعَضَّ أَصَابِعَهُ حَتَّى خَرَجَ مِنْهَا الدَّمُ وَأَنَّهُ يَنْزِلُ عَشِيَّةَ عَرَفَةَ عَلَى جَمَلٍ أَوْرَقَ.
وَأَمْثَالِ هَذِهِ الْأَقْوَالِ الَّتِي فِيهَا الِافْتِرَاءُ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى وَوَصْفُهُ بِالنَّقَائِصِ مَا يُعْلَمُ بُطْلَانُهُ بِصَرِيحِ الْمَعْقُولِ وَصَحِيحِ الْمَنْقُولِ.
وَهَكَذَا إذَا قَالَ الْقَائِلُ: إنَّهُ لَوْ نَزَلَ إلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا؛ لَلَزِمَ الْحَرَكَةُ وَالِانْتِقَالُ وَالْحَرَكَةُ وَالِانْتِقَالُ مِنْ خَصَائِصِ الْأَجْسَامِ أَوْ قَالَ: لَلَزِمَ أَنْ يَخْلُوَ مِنْهُ الْعَرْشُ وَذَلِكَ مُحَالٌ؛ فَإِنَّ لِلنَّاسِ فِي هَذَا ثَلَاثَةَ أَقْوَالٍ. أَحَدُهَا قَوْلُ مَنْ يَقُولُ: يَنْزِلُ وَلَيْسَ بِجِسْمِ. وَقَوْلُ مَنْ يَقُولُ: يَنْزِلُ وَهُوَ جِسْمٌ. وَقَوْلُ مَنْ لَا يَنْفِي الْجِسْمَ وَلَا يُثْبِتُهُ؛ إمَّا إمْسَاكًا عَنْهُمَا لِكَوْنِ ذَلِكَ بِدْعَةً وَتَلْبِيسًا كَمَا تَقَدَّمَ وَإِمَّا مَعَ تَفْصِيلِ الْمُرَادِ وَإِقْرَارِ الْحَقِّ وَبُطْلَانِ الْبَاطِلِ وَبَيَانِ الصَّوَابِ مِنْ الْمَعَانِي الْعَقْلِيَّةِ الَّتِي اشْتَبَهَتْ فِي هَذَا؛ مِثْلَ أَنْ يُقَالَ: النُّزُولُ وَالصُّعُودُ وَالْمَجِيءُ وَالْإِتْيَانُ وَنَحْوُ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ أَنْوَاعُ جِنْسِ الْحَرَكَةِ لَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ مَخْصُوصٌ بِالْجِسْمِ الصِّنَاعِيِّ الَّذِي يَتَكَلَّمُ الْمُتَكَلِّمُونَ فِي إثْبَاتِهِ وَنَفْيِهِ بَلْ يُوصَفُ بِهِ مَا هُوَ أَعَمُّ مِنْ ذَلِكَ. ثُمَّ هُنَا طَرِيقَانِ: أَحَدُهُمَا أَنَّ هَذِهِ الْأُمُورَ تُوصَفُ بِهَا الْأَجْسَامُ وَالْأَعْرَاضُ فَيُقَالُ: جَاءَ الْبَرْدُ وَجَاءَ الْحَرُّ وَجَاءَتْ الْحُمَّى وَنَحْوُ ذَلِكَ مِنْ الْأَعْرَاضِ. وَإِذَا كَانَتْ الْأَعْرَاضُ تُوصَفُ بِالْمَجِيءِ وَالْإِتْيَانِ؛ عُلِمَ أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ مِنْ خَصَائِصِ الْأَجْسَامِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُوصَفَ بِهَذِهِ الْأَفْعَالِ حَقِيقَةً مَعَ أَنَّهُ لَيْسَ بِجِسْمِ وَهَذِهِ طَرِيقَةُ الْأَشْعَرِيِّ وَمَنْ تَبِعَهُ مِنْ نُظَّارِ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَأَتْبَاعِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَغَيْرِهِمْ كَالْقَاضِي أَبِي يَعْلَى وَغَيْرِهِ وَهَذَا مَعْنَى مَا حَكَاهُ فِي الْمَقَالَاتِ عَنْ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْحَدِيثِ. وَلِهَذَا كَانَ قَوْلُ ابْنِ كُلَّابٍ وَالْأَشْعَرِيِّ والقلانسي وَمَنْ وَافَقَهُمْ مِنْ أَتْبَاعِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَغَيْرِهِمْ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَد وَغَيْرِهِمْ؛ إنَّ الِاسْتِوَاءَ فِعْلٌ يَفْعَلُهُ الرَّبُّ فِي الْعَرْشِ. وَكَذَلِكَ يَقُولُونَ فِي النُّزُولِ: وَمَعْنَى ذَلِكَ أَنَّهُ يُحْدِثُ فِي الْعَرْشِ قُرْبًا فَيَصِيرُ مُسْتَوِيًا عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَقُومَ بِهِ- نَفْسُهُ- فِعْلٌ اخْتِيَارِيٌّ سَوَاءٌ قَالُوا: إنَّ الْفِعْلَ هُوَ الْمَفْعُولُ أَوْ لَمْ يَقُولُوا بِذَلِكَ وَكَذَلِكَ النُّزُولُ عِنْدَهُمْ؛ فَهُمْ يَجْعَلُونَ الْأَفْعَالَ اللَّازِمَةَ بِمَنْزِلَةِ الْأَفْعَالِ الْمُتَعَدِّيَةِ وَذَلِكَ لِأَنَّهُمْ اعْتَقَدُوا أَنَّهُ لَا يَقُومُ بِهِ فِعْلٌ اخْتِيَارِيٌّ لِأَنَّ ذَلِكَ حَادِثٌ؛ فَقِيَامُهُ بِهِ يَسْتَلْزِمُ أَنْ تَقُومَ بِهِ الْحَوَادِثُ فَنَفَوْا ذَلِكَ لِهَذَا الْأَصْلِ الَّذِي اعْتَقَدُوهُ. الطَّرِيقُ الثَّانِي: أَنْ يُقَالَ: الْمَجِيءُ وَالْإِتْيَانُ وَالصُّعُودُ وَالنُّزُولُ تُوصَفُ بِهِ رُوحُ الْإِنْسَانِ الَّتِي تُفَارِقُهُ بِالْمَوْتِ وَتُسَمَّى النَّفْسُ وَتُوصَفُ بِهِ الْمَلَائِكَةُ وَلَيْسَ نُزُولُ الرُّوحِ وَصُعُودُهَا مِنْ جِنْسِ نُزُولِ الْبَدَنِ وَصُعُودِهِ؛ فَإِنَّ رُوحَ الْمُؤْمِنِ تَصْعَدُ إلَى فَوْقِ السَّمَوَاتِ ثُمَّ تَهْبِطُ إلَى الْأَرْضِ فِيمَا بَيْنَ قَبْضِهَا وَوَضْعِ الْمَيِّتِ فِي قَبْرِهِ. وَهَذَا زَمَنٌ يَسِيرٌ لَا يَصْعَدُ الْبَدَنُ إلَى مَا فَوْقَ السَّمَوَاتِ ثُمَّ يَنْزِلُ إلَى الْأَرْضِ فِي مِثْلِ هَذَا الزَّمَانِ.